سبب نزول سورة المدثر
يتضح سبب نزول سورة المدثر فيما أتت به من مقاصد ومضامين، حيث تحمل الآيات القرآنية كثير من الرسائل للمؤمنين حتى تُذكرهم بمن سبقوهم من الإيمان، وتخبرهم بحال المشركين وكيف سيكون حالهم إن ظلوا على الكبر والعناد، ومن خلال منصة وميض بوسعنا أن نذكر سبب نزول السورة وأهم مقاصدها.
سبب نزول سورة المدثر
عندما اعتزل الرسول صلى الله عليه وسلم غار حراء لما يقرب من شهر كامل أراد أن يعود إلى منزله بعدها انقضت مدة مكوثه هناك، وما لبث أن سمع هناك صوت يناديه فعندما تعقب الصوت ونظر عن يمينه وشماله ليدركه لم ير مصدره.. سمع الرسول الصوت مرة أخرى وكان صوت جبريل عليه السلام فما إن رفع الرسول رأسه وجد جبريل على العرش في الهواء، فما كان له إلا أن فزع كثيرًا وعاد إلى بيته قائلًا دثروني، حينئذ أنزل الله سبحانه وتعالى سورة المدثر.
ورد في سبب نزول سورة المدثر الذي قمنا بتوضيحه بعضًا من الأدلة النقلية بإمكاننا ذكرها فيما يلي:
- “سَأَلْتُ أبا سَلَمَةَ: أيُّ القُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قالَ: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ}، فَقُلتُ: أوِ {اقْرَأْ}؟ فقالَ: سَأَلْتُ جابِرَ بنَ عبدِ اللهِ: أيُّ القُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قالَ: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ}، فَقُلتُ: أوِ {اقْرَأْ}؟ قالَ جابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ ما حَدَّثَنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: جاوَرْتُ بحِراءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوارِي نَزَلْتُ فاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الوادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمامِي وخَلْفِي، وعَنْ يَمِينِي، وعَنْ شِمالِي، فَلَمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا هو علَى العَرْشِ في الهَواءِ، يَعْنِي جِبْرِيلَ عليه السَّلامُ، فأخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ ماءً، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فأنْذِرْ (2) ورَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وثِيابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 – 4]” (صحيح مسلم).
- جاء في رواية أخرى: “أنَّهُ سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحْيِ: فَبيْنَا أنَا أمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الذي جَاءَنِي بحِرَاءٍ قَاعِدٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَجَئِثْتُ منه حتَّى هَوَيْتُ إلى الأرْضِ، فَجِئْتُ أهْلِي فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُونِي، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى قَوْلِهِ: {فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 – 5] -قالَ أبو سَلَمَةَ: والرِّجْزَ الأوْثَانَ- ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ” (صحيح البخاري).
اقرأ أيضًا: معلومات عن سورة الفاتحة
سبب تسمية سورة المدثر بهذا الاسم
كما تحدثنا عن سبب نزول سورة المدثر نذكر سبب التسمية، حيث إن الله سبحانه وتعالى افتتحها بلفظ المدثر، والذي جاء من “المتدثر” وهو من يقوم بالتدثر بثيابه من أجل التدفئة ليخلد إلى النوم، وتأتي منها لفظ الدثار، على أن الله قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف إثر ذلك السبب.
نذكر أن سورة المدثر واحدة من السور المكية التي يبلغ عدد آياتها 56 آية، وترتيبها في القرآن الكريم السورة 74 ونزلت قبل سورة الفاتحة وبعد سورة المزمل.
اقرأ أيضًا: أسئلة دينية وأجوبتها من القرآن
مقاصد سورة المدثر
للقرآن الكريم العديد من المقاصد التي من الممكن أن تجدد إيمان العبد وتقربه من الخالق إن تدبر معاني الآيات الكريمة وما تحمله من رسائل، وفي القرآن لكل سورة سبب لنزولها، تتعلق بمقاصدها، علاوة على أن اسمها له علاقة بنزولها، في توقيت محدد ومكان محدد، هنا تبعًا لسبب نزول سورة المدثر أتت مقاصدها على النحو التالي:
- وصف يوم القيامة وأهوال جهنم وبئس المصير.
- إنذار المشركين من البعث.
- وصف شخصية النبي والحالة التي كان عليها عند نزول الوحي.
- أقسم الله سبحانه وتعالى في سورة المدثر ببعض الظواهر الكونية للدلالة على قدرته.
- الأمر بالطهارة المعنوية والحسية من أي نجاسات.
- ذكر أسباب إعراض المشركين عن الإيمان بالله.
- حث المسلمين على الصبر والإكثار من التصدق.
- الدعوة إلى الله وعبادته وحده.
- نبذ عبادة الأصنام والتشجيع على تركها.
- وضع مقارنة بين أحوال المؤمن المحافظ على العبادات والصلوات وبين المشرك الذي ينكر البعث ويكفر بالله.
- في السورة تكريم لأشرف الخلق والحث على طاعته تأكيدًا لرسالته.
- ذكر قصة الوليد بن المغيرة قبل الإسلام.
من الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى ما روي في قصة الوليد بن المغيرة التي تناولتها سورة المدثر عن ابن عباس -رضي الله عنه-:
“أنَّ الوليدَ بنَ المغيرةِ جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقرأ عليه القرآنَ فكأنَّه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهلٍ فأتاه فقال: يا عمِّ إنَّ قومَك يريدون أن يجمعوا لك مالًا ليُعطوكه، فإن أتيتَ محمَّدًا لتعرِضَ لَما قبِله، قال: لقد علِمتْ قريشٌ أنِّي من أكثرِها مالًا، قال: فقُلْ فيه قولًا يبلغُ قومَك أنَّك منكِرٌ له وأنَّك كارهٌ له. فقال: وماذا أقولُ فواللهِ ما فيكم رجلٌ أعلمَ بالشِّعرِ منِّي، ولا برجزِه ولا بقصيدِه منِّي، ولا بأشعارِ الجنِّ، واللهِ ما يُشبهُ الَّذي يقولُ شيئًا من هذا، واللهِ إنَّ لقولِه لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّه لمنيرٌ أعلاه مشرقٌ أسفلُه، وإنَّه ليعلو وما يُعلَى عليه، وإنَّه ليُحطِّمُ ما تحته قال: لا يرضَى عنك قومُك حتَّى تقولَ فيه، قال: فدَعْني حتَّى أفكِّرَ، فلمَّا فكَّر قال: هذا سحرٌ يُؤثرُ يَأثرُه عن غيرِه، فنزلت: “ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا”.
اقرأ أيضًا: آيات قرآنية عن الصحة الجسدية
تفسير سورة المدثر
جاء في تفسير السورة الكريمة توضيحًا لمضمون بعض الآيات بعينها، وكما ذكرنا سبب نزول سورة المدثر يسعنا ذكر تفسير ما تيسر من آياتها كما يلي:
- “يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)“، بدأت الآيات الكريمة بالمناداة للرسول للحال الذي كان عليه في الوحي، وكانت كلها أوامر إلهية لأشرف الخلق.
- “فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)“، تتناول تلك الآيات قصة الوليد بن المغيرة وكيف أنه فضل الزعامة على الإيمان بالله رغم أنه وجد بعينه وأدرك يقينًا أن الرسول ليس بساحر ولا كذاب، إلا أنه استكبر عن الإقرار بوحدانية الله وعزم على قول إن الرسول ساحر.
- “سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)”، يصف الله سبحانه وتعالى في تلك الآيات جهنم وبئس المصير، في تبيين من الخالق كيف يكون عقاب الكافرين.
- “إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ (47)“، هنا تحدث المفاضلة بين المؤمنين والكافرين، فأولئك أهل التقوى والمغفرة الذين سينعم الله عليهم بالجنان ودار الخلد، مقارنة بالكافرين المشركين الذين لا يحافظون على صلاتهم ولا يقرون بوجود البعث.
- “كَلَّا ۖ بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)”، تبين الآيات الكريمة أن المرء بيده أن يأخذ من العبرة والعظمة ما يجعله يجحف عن طريق الباطل والظلام ليهتدي بالنور والإيمان، الأمر محض إرادته، فمن يؤمن بالله بحق هو من كان تقيًّا يستحق غفران الخالق.
من فضل سورة المدثر كغيرها من سور القرآن الكريم تأتي تلاوة الحرف بحسنة والحسنة تأتي بعشر أمثالها، كما يقال إنها أول سورة نزلت بالأمر بالتبليغ.