فنون النثر العربي الحديث
تتعدد صور فنون النثر العربي الحديث، ولكلٍ منها أسلوبها الذي يُميزها ويمنحها رونقها الخاص، والجدير بالذكر أن خصائص هذا النثر اختلفت اختلافًا جذريًا إذا صح التعبير عنها في السابق، فمن هُم رواده؟ وما هي فنون النثر العربي الحديث؟ تجدون ضالتكم للإجابة عن كافة هذه الأسئلة وأكثر عبر منصة وميض.
فنون النثر العربي الحديث
يُعتبر النثر الحديث من الفنون التي لجأ إليها العرب للتخلص من القيود الشعرية، وهو سبب التسمية في المقام الأول، فالنثر يعني رمي الشيء بشكل مُتفرق وعشوائي، وهذا هو حال النثر مُقارنةً بالشعر، بعض الكلام الذي يتم وضعه جنبًا إلى جنب كما ينثر المرء السُكر على قطع الكعك.
ما يُميز النثر حقًا عن الشعر هو كون الشاعر يتقيد بالأسجاع وضرورة كتابة الكلمات وانتقائها والبحث في الآداب النحوية لتقديم الكلام وتأخيره في سبيل الحصول على قصيدة شعرية في نهاية المطاف تمتاز بكونها موزونة ومُقفاه.
بشكل عام يُعتبر النثر من صور الأدب الإنساني، والجدير بالذكر أنه في المقام الأول ليس بفن عربي، ولكن لا شك في كون العرب والناطقين بلغة الضاد أكثر من أبدعوا في هذا الفن اللغوي والأدبي، وأضافوا إليه قيمةً ووزنًا لا يُمكن لجاحدٍ أن يُنكرهم.
بالرجوع إلى أصل النثر في التُراث العربي نجد أنه قد بدأ في العصر الجاهلي، ولكنه كان يشتمل على أبواب الوصايا، الخطابة، بالإضافة إلى الحكم والأمثال، ومع مرور الوقت ودخول العصر الإسلامي بعد بعث أشرف الخلق مُحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وما تبعه من عصور أموية ازدهر فيها النثر بشكل كبير.
فوصل إلى حقبته الذهبية خلال العصر العباسي على وجه الخصوص، فآنذاك راجت الكتابات النثرية والأدبية، وبدخول العصر العُثماني تراجع حتى وصل إلى أسوأ مراحله مُنذ عصر الجاهلية الأول، واستمر هذا الانحدار الملحوظ حتى نهاية القرن الثامن عشر، فباختلاط العرب بالعجم أثناء الحملات الإنكليزية والفرنسية بدأ الأدب يعود إلى وضعه القديم.
كان الاتجاه حينها يذهب إلى فكرة التطوير، وهو ما سعى إليه العديد من الأُدباء حينها، ونتج عن ذلك العديد من فنون النثر العربي الحديث مثل:
1- فن القصة
على الرغم من كون القصة واحدةً من أبرز فنون النثر العربي الحديث إلا أنها في المقام الأول من صور الفنون التي عرفها الإنسان مُنذ قديم الأزل، ومن الطريف هُنا أن القصة يتم اعتبارها أكثر الفنون العربية النثرية حداثة وعصرية، فمن حيث الزمن ترسخت أصولها في القرن التاسع عشر فقط.
يتم تعريف فن القصة في فنون النثر العربي الحديث بكونها حكاية يتم روايتها بشكل نثري وجهًا لوجه، مما يعني أن المُتلقي يلتقي فيها مع المُلقي، وتُعبر عن صورة من صور النشاط الحركي في حياة الإنسان، فالأساس فيها وجود بعض العوامل الحقيقة والثابتة كالإنسان، بعض الأماكن والمخلوقات الأُخرى.
لكن ما يقوم به الأديب هُنا وما يُمثل عُنصر الإبداع في هذا الفن من فنون النثر العربي الحديث هو ما يُعرف بالحبكة، فعلى الرغم من كون العناصر واحدة تقريبًا إلا أن شخصيات هذه القصة وطريقة سردها بشكل تام بين يدي الكاتب وتحت طوعه، فهو قادر على جعل الشخصية تتزوج، تُنجب، تموت وتحيا.
العامل الرئيسي في القصة وهو ما يجعلها مُمتعة في واقع الأمر هو اللجوء إلى وجود تسلسل مُرتب للأحداث، ومن الضروري أن يكون هذا التسلسل في تتابع زمني مُتطور لأحداث يعمل الزمن على تنظيمها، ويتم سرد القصة بتسلسل عقلاني، وفي غالب الأحيان تتمحور القصة حول يوم واحد.
يُعتبر هذا الفن النثري الذي يعتمد في المقام الأول على كونه سرد خيالي فيه درجة مُعينة من الواقعية والقبول العقلي من أمتع فنون النثر العربي الحديث بالنسبة لي بشكل شخصي، والعامل الأبرز في كون هذا العمل مُمتعًا من عدمه هو القُدرة الإبداعية للأديب أو الكاتب وللقصة صور عِدة بين الطويلة منها والقصيرة.
اقرأ أيضًا: تجربتي مع تخصص اللغة العربية
2- فن الرواية
يُعتبر الحديث عن فنون النثر العربي الحديث بداية إعلان سلسلة طويلة من المُغالطات والخلط المُبرر بكل تأكيد بين القصة والرواية، ولكن وجب التنويه هُنا إلى أن هُناك اختلافات كبيرة بين القصص والروايات، ومن الضروري أن تُدرك كون الرواية من صور الأدب الذي لا يُنافسه في منزلته ومكانته أي فن أدبي آخر تقريبًا.
الجدير بالذكر أن فن الروايات تطور في المقام الأول من قصص الرومانس والغرام Romance التي انتشرت في فترة من الفترات كالنار في الهشيم لتجتاح أوروبا بأكملها، وحدث ذلك في العصور الوسطى، وغالبًا ما كانت تدور حول سياقٍ خيالي بعيد كُل البعُد عن الواقعية والعقلانية، فلا تتحلي بأدنى حدود المنطق.
كانت قصص الرومانس التي تُعتبر أساس الروايات تدور حينها حول علاقة الفُرسان الفُقراء الغرامية مع أميرات القلاع وسيدات القُصور وحتى البلاط الملكي، كما اختصت بالحديث عن مُغامراتهم الغريبة وما يتبعها من حوادث خارقة معها، فتارةً يطير الفارس بحصانه، وتارةً أُخرى يتسلق القلاع ليُمسك بأميرته التي أسرت قلبه وشغلت هاجسه.
في أواخر القرن الثامن عشر ومع الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا تضخم هذا الفن الأدبي وأصبح له من الضوابط والأصول ما جعله فنًا مُعاصرًا عُرف باسم الرواية، وأطلق عليه النُقاد اسم ملحمة عصر البرجوازية.
لكن ما هو الذي يُميز الروايات عن القصص؟ أول ما سيطرأ في ذهنك الحجم بكل تأكيد، ولكن هل من المنطقي أن تكون المكانة التي وصلها هذا الفن من فنون النثر الحديث العربي عائدةٌ إلى جانب الحجم وحده؟ بالتأكيد لا.
فعلى الرغم من ضرورة كون الرواية لا تقل عن ستين ألف مُفردة أو كلمة حتى يعتبرها النُقاد رواية في المقام الأول إلا أن ما يُميزها بكل تأكيد عن القصة هو البُنية الداخلية السردية لهذا الفن.
كما أن اتساع الفترة الزمنية التي قد تصل إلى عقود وقرون وغيرها من عوامل الأشخاص والمُعالجة تلعب دورًا كبيرًا في تميز الرواية، فيكون فيها الكاتب حُرًا بشكل أكبر.
3- الخطابة النثرية
كُنا قد ذكرنا أعلاه أن الأدب النثري ازدهر في العصر العباسي، ولكن هذا لا ينطبق على كافة فنون النثر العربي الحديث، فقد ودع العرب الخطابة في هذا العصر الذي لاقت فيه ركودًا وضعفًا مُنقطع النظير، فكان لا يقوم بها إلا الفئة الجاهلة الناقلة التي لا تعلم عن الإبداع شيئًا.
لكن مع العصر الحديث في القرن الثالث عشر الهجري أو ما يُعادل التاسع عشر للميلاد بدأت الخطابة بالارتقاء مرة أُخرى، ولم تُصادف على مر العصور تطورًا ورقيًا، كالذي صادفته في هذا العصر الذي يُعتبر بلا أدنى شك أزهى عصورها.
على الرغم من ازدهارها إلا أنها لم تتعدى في بداية العصر الحديث ما كانت عليه في العصر العباسي وما قبله، فن نثري في الجوامع والبيع، ولكن بسبب قيام بعد الأسباب وثوران الدواعي تحرك هذا الفن من فنون النثر الحديث العربي من حركة ركودها، وبُعث فيها الحياة، وهو ما أدخله في حقبة انتعاشية جديدة.
ما عزز ظهور هذا الفن هو البلاء والابتلاء الذي حل على البُلدان العربية جراء الاستعمار والاجتياح الغربي والأوروبي لها، وهذا التسليط الأجنبي جعل أبناء البُلدان العربية يهبون للتصدي لهذا العُدوان ورفعه عنهم خاصةً بعدما انتشرت البدع في الدين.
فكان الخطاب وسيلة ترابط الشعب وتوحيد الصفوف بالإضافة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ومُحاربة البدع الجارفة، ما يعني أن هذا الفن من فنون النثر الحديث العربي التي اختصت بالجانبين الديني والوطني على حدٍ سواء.
اقرأ أيضًا: أنواع النصوص في اللغة العربية وأهمها
4- المقالة الأدبية
من المؤكد أنك قرأت العديد من المقالات الأدبية على مدار فترة حياتك كُلها، وسواء ما كان مصدر هذه المقالة المجلات، الكُتب أو حتى الصُحف والجرائد اليومية فإنه من المؤكد أنك لاحظت كون المقالة تتشابه بشكل كبير مع القصص القصيرة في بعض الخصائص والعوامل الخارجية.
لكن هناك بكل تأكيد بعض الاختلافات، فالمقالة كما يصفها كبار الأُدباء هي قطعة نثرية مُحدودة في جانبي الطول والموضوع، ومن الضروري أن يتم كتابتها بطريقة عفوية سريعة، وهي في غالب الأحيان خالية من التكلف والرهق، لذا يصفها البعض بكونها أسهل صور فنون النثر الحديث العربي.
أما عن شروطها فيأتي على رأس القائمة التعبير الصادق عن شخصية الكاتب، فالمقالة في الأساس هي مصدر ميمي من القول، كما ورد في بيت الحطيئة عندما كان يُخاطب عُمرًا بقوله: “ترفق عليَّ هداك المليك… فإن لكل مقامٍ مقالًا“، ما يعني أنها تُحدث من يقرأها عن كاتبها وقائلها، فمهما كان نوع المقالة وشكلها وجب بروز قدر ما من شخصية الكاتب وسعة ثقافته.
5- فن القصائد النثرية
لا شك في كون فن القصائد النثرية من صور فنون النثر الحديث العربي التي تُعتبر امتدادًا للشعر في المقام الأول، ويُمكن وصفها بكونها من القطع غير الموزونة، والقافية فيها تأتي في أجزاء مُعينة فقط دونًا عن غيرها، فهي بشكل عام فيها أبيات غير مُقفاه، كما تحمل العديد من المعاني الشعرية والصور النثرية لتتمحور حول موضوعٍ واحد.
هُناك تعريفات أوروبية كثيرة لهذا الفن الأدبي، فبالنسبة للغرب كانت القصيدة النثرية قطعة موجزة بما يكفي، وهي موحدة ومضغوطة كقطعة زُجاجية من بلور، وحُرة يستطيع فيها المؤلف الخروج خارج كُل سياق أو ثابت، فيُعبر عن أي شيء وكُل شيء بإيحاء لا نهائي يميل لكونه مضطرب.
6- النثر المسرحي
على الرغم من كون الأدب المسرحي من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان على الإطلاق إلا أنها تطورت بشكل كبير قبل اعتبارها من أبرز فن النثر العربي الحديث، وشمل هذا التطور جوانب الشخصيات، الأغراض بالإضافة إلى الحوار وحتى الأنواع، وهي بشكل مُختصر تجسيد لأحداث مُعينة مكتوبة في شكل تمثيلي وعرضه للمُشاهدين.
كما أن أنواعها تتعدد، فمنها ما هو درامي، كوميدي وحتى مأساوي، واعتاد العرب على التعبير عن الظروف الراهنة التي يعيشونها من خلال سردها بشكل مسرحي تمثيلي، فكان هذا الفن من فنون النثر الحديث العربي الأكثر تأثيرًا على الشارع العربي دون مُنازع بعد الخطابة.
اقرأ أيضًا: كلمات قصيدة لا تشكو لِلنَّاسِ جرحًا أنت صاحبه كاملة
7- الخاطرة النثرية
تُعتبر الخاطرة من صور فنون النثر الحديث العربي التي نشأت في المقام الأول من الصحافة، ما يعني أنها من صور النثر المُنبثة من المقال، ولكن ما يجعلها مقال غير مُكتمل هو كونها مُجرد فكرة فهي لم تنضج بعد، وليست بوليدة فترة زمنية طويلة، بل هي أقرب إلى أن تكون طارئة.
يُمكن وصفها بكونها مقال قصير في عدد الكلمات يخلو من التفصيل ويتمتع بالإيجاز، ويعرض فيه الكاتب وجهة نظره حيال موضوعٍ ما سواء ما كان خاض التجربة بشكل ذاتي أم أنه يتحدث بناءً على اعتقاداتٍ فحسب، ومن صفاتها القصر بكل تأكيد، بالإضافة إلى عدم الحاجة إلى وجود أدلة وبراهين عقلية أو نقلية.
كما أنها تعتمد على الانفعال الوجداني وتدفق العواطف، مما يعني أن لا إعداد مُسبق فيها، ومن الضروري الإيجاز بشرط ألا يكون بشكل مُخل في القواعد والشروط.
هُناك العديد ممن برعوا في هذا الفن الأدبي، ولكن خلّد التاريخ العربي بعض أبرز رواد فن النثر العربي الحديث من أمثلة اللُبناني أديب إسحاق، الشيخ المصري محمد عبده، رفاعة الطهطاوي بالإضافة إلى بطرس البستاني وغيرهم الكثير.