شر الناس من لا يقبل الاعتذار
شر الناس من لا يقبل الاعتذار هي مقولة تحمل في طياتها العديد من المعاني، وهي أعمق بكثير مما تبدو عليه ظاهريًا، فجميعنا تقريبًا صادفه موقف وضعه موضع صاحب القرار في تقبل أو رفض اعتذار من أساء إليه، ولكن ما الذي قد يجعلنا لا نقبل الاعتذار وهل فعلًا من لا يقبل الاعتذار شخص سيئ أو غير طيب، هذا ما سنعرفه من خلال منصة وميض.
شر الناس من لا يقبل الاعتذار
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضيّ الله عنه أن شر الناس من لا يقبل الاعتذار، وذلك دلالة على مدى قيمة ومكانة ثقافة التسامح التي عززها الإسلام منذ أن نزل، فإن التسامح هو الذي جعل من الحياة بين البشر ممكنة ومستحبة ومرغوبة، وبالطبع الحياة البشرية تحتمل الخطأ وتحتمل الصواب.
جميعنا يخطئ وجميعنا أُخطئ في حقه وكما نحب أن نُسامَح نحب أيضًا أن نسامِح، ولقد ذهب الإمام علي بن أبي طالب في مقولته السابقة إلى أن الشخص الذي لا يقبل اعتذار من أخطأ في حقه لا خير في نفسه بقدر ما به شر، فالعفو هو من أسمى السمات التي يمكن أن يتحلى بها الإنسان، ويتضح ذلك من خلال الآيات الكريمة الآتية:
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة التغابن: الآية رقم 14].
- (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سورة البقرة: الآية رقم 237].
- (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة النور: الآية رقم 22].
- (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [سورة الشورى: الآية رقم 40].
كل تلك الآيات الكريمة تؤكد على أن التسامح هو الصفة الأجمل والأسمى في أي إنسان، وهي كما تعزز وترفع من شأن الإنسان في الدنيا وعند الناس، هي تعززها وترفعها أكثر وأكثر عند الله سبحانه وتعالى، وهي بالطبع تبين بوضوح مدى صدق مقولة “شر الناس من لا يقبل الاعتذار”.
اقرأ أيضًا: كيفية الاعتذار من شخص جرحته
عدم القدرة على المسامحة
بالرغم من كون التسامح صفة كريمة وعظيمة بقدر ما قد يكون أحيانًا أمر بالغ في الصعوبة وأحيانًا أخرى قد يكون مستحيلًا، وبما أننا نحب أن يسامحنا الغير على أخطائنا ما الذي قد يجعلنا غير قادرين على أن نسامح غيرنا، إن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها والإنسان ربما يكون عاجزًا عن المسامحة نتيجة لعدة أسباب مثل:
1- نوع الخطأ
إن نوع الخطأ الذي أقترفه الطرف الآخر في حقنا يعد عاملًا مهمًا وسببًا قويًا مباشرًا في عدم القدرة على المسامحة، فإن كلما كان الخطأ كبيرًا ومؤلمًا جدًا كان العفو والصفح أمرًا صعبًا، وإن الأسوأ من الخطأ هو التأخر في الاعتذار عنه والصمت عليه لوقت طويل، لذا لا يشترط أن يكون شر الناس من لا يقبل الاعتذار.
إن تأخر جبران خاطر من أخطأنا في حقه والاعتذار عما بدر منا يجعله يشعر بأنه هان علينا، ولا شعور في الدنيا أسوأ من أن يشعر الإنسان بأنه هان على عزيز عليه، فإذا مر زمن وعدنا إليه طالبين العفو منه فلا عجب إذا أسدل الستار على نفسه أمامنا وأغلق أبوابه في وجهنا، فهو مثلما هان علينا في الماضي هُنا عليه الآن.
2- مقدار الأذى
بقدر ما كان الأذى تكون القدرة على المسامحة موجودة، فهناك أذى لا يمكن نسيانه ويصعب جدًا التعافي منه وإذا تعافينا يترك هذا الأذى ندبة لا يمحوها الزمن، ربما يكون الأذى ماديًا أو معنويًا ونفسيًا وقد يكون جسديًا أو فكريًا، فإن الإنسان من الممكن أن يكون بارعًا جدًا في التفنن بأنواع الأذى لغيره بسبب أو من دون سبب يذكر.
هناك أذى يمكن تجاوزه ويمكن أن يمحى دون أن يترك أثرًا وربما أيضًا لا نكون قادرين فيما بعد على تذكره حتى، بينما يوجد أذى آخر مهما مرت الأيام يبقى هو السبب في غصة القلب وألمه كلما تواترت ذكرى منه إلى أذهاننا، فالذكرى كما تطبع في القلب تطبع في العقل وغالبًا ما يطبع في كليهما بنفس القوة لا يمكن نسيانه.
اقرأ أيضًا: كيف تتعامل مع شخص يستغلك
3- الخوض في الشرف والعرض
إن التعدي على حرمة الغير والخوض في شرفه والطعن بعرضه من أنواع الأذى التي يصعب جدًا على الإنسان أن يغفرها، وخاصةً حينما يقوم الشخص بذلك في وقت الانفعال أو الخصام أو حتى الخلاف بسيطًا كان أم معقدًا، وهذا ما يسمى في الإسلام بالفجر في الخصام.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ“ رواه عبد الله بن عمرو، وحدثه البخاري، المصدر: صحيح البخاري، حكم الحديث: صحيح الإسناد، التخريج: أخرجه البخاري.
هذا النوع من الأذى جريمة لا يمكن التهاون فيها ولا يمكن العفو عنها بسهولة، فهي تترك في نفس الإنسان وخاصةً المرأة جرحًا عميقًا لا يداويه الزمان أبدًا، حتى وإن غابت الذكرى عن العقل لبعض الوقت وتجاهلها القلب ثم تواترت وتجددت فجأة، يشعر القلب بألم وحسرة وحزن شديد وهذا يعني أنه لم ينسَ فهو فقط كان يتناسى.
4- استغلال واستنزاف المشاعر
ما الإنسان إلا حفنة من المشاعر التي تولد الطاقة بداخله وإذا ما تأذت المشاعر غاب مصدر الطاقة لدى الإنسان، فمشاعر الحب في الشخص هي التي تحركه صوب ما يحب وتمكنه من عمل كل شيء بحب، ومشاعر الغيرة هي التي تجعله يغار ويغضب ويثور على كل ما هو غير سارٍ له، ومشاعر الكره هي التي تنفره مما وممن قد يؤذيه.
غش الإنسان وخداعه واستنزاف مشاعره ثم الغدر به في النهاية قد يكون سببًا في دمار وانهيار كيانه بالكامل، فجرح المشاعر الإنسانية جرم لا يقدر معناه إلا من ذاقه والذي من شأنه أن يغير الشخص ويجعله نسخة كئيبة حزينة منطفئة من إنسان أصله جميل ويافع.
اقرأ أيضًا: كيف ترجع علاقة انتهت
الفرق بين العفو والصفح
يخطئ البعض في الظن أن العفو هو نفسه الصفح، فالعفو هو ضرب من ضروب التسامح والمسامحة بينما الصفح هو سمة أرقى وأنقى وهي التسامح المطلق، ولنكون أكثر وضوحًا يمكننا القول بأن العفو هو الذي نقوم به إذا ما أتى إلينا شخص ما، يعتذر منا كي نعفو عنه لاقترافه الخطأ بحقنا في السابق.
العفو أيضًا هو تجاوزنا عمن أساء إلينا بمحض إرادتنا بالرغم من إمكانية رد الأذى له بأذى أو معاقبته على ما فعله بنا، ولكن العفو يعني التنازل عن الحق في الدنيا أما ما عانيناه وما اتركب في حقنا من إثم فهو محفوظ عند الله وعنده لا تضيع الحقوق، أي أن العفو في الدنيا لا يعني أننا تنازلنا تمامًا عن حقنا في الآخرة وعند الله.
أما بالنسبة إلى الصفح فهو في مرتبة أعلى من التسامح بكثير، وهو يعني العفو في الدنيا وفي الآخرة والتنازل عن الحق والانتقام في الدنيا والحق المحفوظ لنا عند الله، ولا يكون الصفح إلا دلالة على نقاء وطهارة نفس وقلب الإنسان، لذا وصف الله الصفح بأنه جميل:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [سورة الحجر: الآية رقم 85].
ليس دومًا يكون شر الناس من لا يقبل الاعتذار، فربما يكون ما تعرص إليه ذلك الشخص أقوى وأكبر من قدرته، فإن العفو أو الصفح يحتاج إلى نفس سمحة بالغة القوة، وليس عيبًا أن يكون الشخص عاجزًا ولو لمرة عن المسامحة.