ليس كل مايتمناه المرء يدركه
ليس كل مايتمناه المرء يدركه.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، أبيات قالها أحد الشعراء العظام مدركًا معانيها الضمنية، فالأماني هي تلك المشاعر التي تُحرك شغفنا وتجعلنا نشعر بالحياة، بيد أنها لا قيمة لها دون حراك من أجلها، وعلى الرغم من هذا هناك من الأمنيات التي لا يقدر المرء على تحقيقها، ربما لم تُكتب له في القدر المعلوم ولو كُتبت لما كانت خيرًا، ومن خلال منصة وميض نشير إلى ما وراء تلك الأبيات من معانِ.
ليس كل مايتمناه المرء يدركه
إن الأمنيات التي تتجاوز القدرات ما هي إلا ضرب من الخيال، فيجب وبأي حال أن يتوافق الواقع مع طاقات المرء وقدراته وبالتالي يتناسب مع ما يتوق إلى تحقيقه، من أهداف قصيرة وبعيدة، هذا لا ينفي كون الطموح جميلًا إن وصل إلى النجوم، ولكنه أجمل إن كان أهلًا للتحقيق على أرض الواقع، فيدركه المرء بقلبه وجوارحه ويحرزه نجاحًا.
فلا يجب أن نتمنى ما يزول مع السراب البائس، فتحبط عزائمنا ونستشعر الفشل، بل الأمنية الحقيقة تلك التي تكون لها أمارات وبوادر بعيدة عن أحلام اليقظة، تلك الأماني المعتدلة هي الخطوة الأولى للانطلاق.. ولكن كحال طبيعة البشر يتجاوزن قدراتهم ويتعلقون بالأحلام الضائعة، فتكون النتيجة هي عدم الوصول.
للكون نواميس موضوعية يجري من خلالها، مهما وصلت أمنياتنا إلى عنان السماء، إلا أن ضيق الأفق وإهمال القوانين الكونية هو ما يُعرقل طريق تحقيق الأماني المعتدلة الحقيقية، فعلى الرغم من أن المتنبي معروف عن أشعاره علو الهمم إلا أن هذا البيت الشعري يناقضه، ألا وهو “ليس كل مايتمناه المرء يدركه” الذي يُنسب إلى المتنبي، مؤكدًا فيه على أن الأماني يجب أن تكون مقدورة مأمونة، لا متعذرة ممنوعة لا تمت إلى الواقع بصلة.
فإن انسجم الخيال مع الواقع أفلحت النفس وأثمرت، هذا لا يمنع العيش بحلاوة التمني في ريعان الطفولة والشباب لكن مع مراعاة الاتزان في الفكر والمشاعر والتحركات، فلا يكن مصير تلك الأماني الانتكاس فلا تزيد صاحبها إلا صدودًا.. فالأماني المُرجاة خير من الأماني المبالغ فيها التي تعتبر زيفًا.
فينصح المتنبي من هذا المنطلق أن المرء إن كان راغبًا في إدراك أمانيه عليه أن يكون معتدلًا لا يسير وفق لهواه فحسب، بل يضع اعتبارًا إلى واقعه وقدراته الحقيقية، مؤكدًا ذلك بالشطر الآخر من البيت “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن“.
اقرأ أيضًا: عجائب الاستغفار في تحقيق الأمنيات
قصيدة بم التعلل للمتنبي
أبو الطيب المتنبي شاعر من العصر العباسي، عرف عنه طلاقته البلاغية وفصاحته اللغوية، فهو أفضل من ينتقي الألفاظ والمفردات ليضعها في موضعها، لذا صنف من الشعراء الاستثنائيين، وكان ذكائه واجتهاده سببًا في إعلاء موهبته، عني في أشعاره بتوضيح تجارب الحياة ومآسيها، على أنه كان يُركز على المعاني الإيجابية أكثر.
تعبر تلك القصيدة للمتنبي عن أمنياتنا الصائمة التي لا يحين وقت إفطارها بعد، فيأتي في كل بيت من أبياته الرائعة بآثار رائعة في نفوسنا تجعلنا ندرك أن الواقع لا يُشترط أن يتفق مع مخيلاتنا، لنعيش بقليل من الموضوعية إلى جانب بساط الخيال، لذا نقدم لكم قصيدة المتنبي “بم التعلل” والتي قال فيها بيته الشهير “ليس كل مايتمناه المرء يدركه” في الفقرة التالية:
بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني
مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلاّ غَيرَ مُكتَرِثٍ
ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَكَ البَدنُ
فَمَا يُديمُ سُرُورٌ ما سُرِرْتَ بِهِ
وَلا يَرُدّ عَلَيكَ الفَائِتَ الحَزَنُ
مِمّا أضَرّ بأهْلِ العِشْقِ أنّهُمُ
هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا
تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ
في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
تَحَمّلُوا حَمَلَتْكُمْ كلُّ ناجِيَةٍ
فكُلُّ بَينٍ عَليّ اليَوْمَ مُؤتَمَنُ
ما في هَوَادِجِكم من مُهجتي عِوَضٌ
إنْ مُتُّ شَوْقاً وَلا فيها لهَا ثَمَنُ
يَا مَنْ نُعيتُ على بُعْدٍ بمَجْلِسِهِ
كُلٌّ بمَا زَعَمَ النّاعونَ مُرْتَهَنُ
كمْ قد قُتِلتُ وكم قد متُّ عندَكُمُ
ثمّ انتَفَضْتُ فزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
قد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قولهِمِ
جَماعَةٌ ثمّ ماتُوا قبلَ مَن دَفَنوا
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ
تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ
رَأيتُكُم لا يَصُونُ العِرْضَ جارُكمُ
وَلا يَدِرُّ على مَرْعاكُمُ اللّبَنُ
جَزاءُ كُلّ قَرِيبٍ مِنكُمُ مَلَلٌ
وَحَظُّ كُلّ مُحِبٍّ منكُمُ ضَغَنُ
وَتَغضَبُونَ على مَنْ نَالَ رِفْدَكُمُ
حتى يُعاقِبَهُ التّنغيصُ وَالمِنَنُ
فَغَادَرَ الهَجْرُ ما بَيني وَبينَكُمُ
يَهماءَ تكذِبُ فيها العَينُ
وَالأُذُنُ تَحْبُو الرّوَاسِمُ مِن بَعدِ الرّسيمِ بهَا
وَتَسألُ الأرْضَ عن أخفافِها الثَّفِنُ
إنّي أُصَاحِبُ حِلمي وَهْوَ بي كَرَمٌ
وَلا أُصاحِبُ حِلمي وَهوَ بي جُبُنُ
وَلا أُقيمُ على مَالٍ أذِلُّ بِهِ
وَلا ألَذُّ بِمَا عِرْضِي بِهِ دَرِنُ
سَهِرْتُ بَعد رَحيلي وَحشَةً لكُمُ
ثمّ استَمَرّ مريري وَارْعَوَى الوَسَنُ
وَإنْ بُلِيتُ بوُدٍّ مِثْلِ وُدّكُمُ
فإنّني بفِراقٍ مِثْلِهِ قَمِنُ
أبْلى الأجِلّةَ مُهْري عِندَ غَيرِكُمُ
وَبُدِّلَ العُذْرُ بالفُسطاطِ وَالرّسَنُ
عندَ الهُمامِ أبي المِسكِ الذي غرِقَتْ
في جُودِهِ مُضَرُ الحَمراءِ وَاليَمَنُ
وَإنْ تأخّرَ عَنّي بَعضُ مَوْعِدِهِ
فَمَا تَأخَّرُ آمَالي وَلا تَهِنُ
هُوَ الوَفيُّ وَلَكِنّي ذَكَرْتُ لَهُ
مَوَدّةً فَهْوَ يَبْلُوهَا وَيَمْتَحِنُ
اقرأ أيضًا: أجمل ماقيل عن الحياة والأمل
رب امرئ حتفه فيما تمناه
“ما كل ما يتمنى المرء يدركه رب امرئ حتفه فيما تمناه” بيت شعري آخر لأبي العتاهية، يتشابه في معناه الضمني مع ما قاله المتنبي “ليس كل مايتمناه المرء يدركه”، فالتمني عادة فطرية لا يخلو قلب امرئ منها، فهو من الغرائز البشرية، المرتبطة باستمرار الحياة، تنطوي على معان شتى كالشغف والحافز والهدف وما إلى ذلك، فالتمني لفظًا هو التصور الذي يريد المرء تحقيقه والوصول إليه في حياته، على أن الأمنيات مرهونة حقًا بغير إرادتنا، إما أن يكون قدرها التحقق، وإما أن تتعلق بالرجاء.
من الأمنيات ما تكون مستحيلة، فتكون نسجًا للخيال ليس إلا، فقط تستهلك طاقة الإنسان وتفكيره، يظل راكضًا وراء أمنية بعيدة المنال فما يناله إلا فقدان العزيمة، هنا ذكر “أبو العتاهية” أن من الأمنيات ما يجعل المرء يلقى موته في حياته، فيموت شغفه وتلقى عزيمته الهوان.. هكذا يؤكد الشعراء على هذا المراد فها هو قول المتنبي “وَمَا نيلُ المَطَالبِ بالتمنِّي… ولكنْ تؤخذُ الدُنيا غِلابًا!“.
اقرأ أيضًا: تحقيق الامنيات بالقران الكريم
إن طالت الأماني بلا أفعال فما هي إلا لغو واهي، لا مجال لها في الواقع، ولا نشهدها مهما حيينا.. فقد صدق المتنبي حينما قال: “ليس كل مايتمناه المرء يدركه”.